

#نعيق_الغربان_السّود
#قصة_وعبرة
يجلس مستغرقًا أمام حاسوبه الخاص به، منشغلاً عن زوجته التي تجلس بجانبه، هي تقتربُ منه، تجلس بهدوء إلى جواره، تثرثر، ثم تذكِّره ببعض واجباته العائلية، التي ستحل في نهاية الأسبوع.
يجيبها بضجر :
– ماذا تريدين؟ ألا ترَيْن أنني مشغول؟!
– أرى، ولكنك يا عزيزي، هكذا دائمًا مشغول.
يغلق الحاسوب في لا مبالاة، يخطو خطوتين إلى المقعد المجاور، فيستلقي ويفتح التلفاز ، ليصير ” “الريموت” رفيق سهرته ، والتي تنتهي أحياناً بالنّوم على الكنبة ، تتنهد بصوت مسموع، ثم تصيح:
‘يا لها مِن دوامةٍ لا خلاص منها! ” الريموت” لا يفارق أصابعَه، ووجهه معلقٌ بشاشة التلفاز.
قطَع انصرافَه عنها، ونكّس الأمل أشرعته ، فلن يلتفت إليها، تتحركُ في مللٍ ويأس إلى السرير لتنام.
بعد قليل يُغالِبُه النعاس، فيُسند رأسه إلى ظهر الكرسي، ينفلت” الريموت” من بين يديه ويستسلم لنومٍ عميق .
نعيقُ غربانٍ يوقظها ليلاً ، تهرع نحو غرفة الجلوس ، تنظر إليه وهو غارقٌ في نومه ، لا تدري أترثيه أم تنهره أم تبكيه ؟! أمعنت النظر في شاشة التلفاز ، أزعجتها الغربان السود التي ملأت الشاشة ، أطفأت التلفاز لتنهي سهرة زوجها الليلية، ويختفي نعيق الغربان، ينتبه إليها، تهزُّه من كتفه ، لتحثَّه على المضي إلى السرير، فيقوم مثقل الجفون، مترنح الجسد، تتعثر أقدامه، ليلقي بجسده المتعب على السرير، تلقي هي الأخرى نفسها على السرير ، لترقد بجانبه .
وفي الصباح ، تسللت أشعة الشمس من بين الثقوب ، تُزعِجُه أشعتها التي ملأت الغرفة، وأشعلت الوسادةَ تحت رأسه، يستيقظ مسرعاً ليتدارك أمرَه، في تزامنٍ عجيب، هبَّت من رقدتها مثلَه، صاح بها في لهجة آمرة مستعلية:
– أخرجي ملابسي بسرعة، وامسحي حذائي ، حتى أنتهي من الحمّام .
هَمْهَمت في كلمات، تحاول أن تحفظَ بها بعضًا مما تبقَّى لديها من عزة نفسٍ وكرامة:
-أنا مستعجلة مثلك، ولا وقت لديَّ لفعل ذلك، ثم تتمتم في نفسها: يا للغطرسة والكِبر!
يرتدي ملابسه على عجلٍ، ثم يقول دون أن ينظر إليها:
– “على الله” الطعام لا يحترق اليوم كما تفعلين كل يوم بسبب الفيس بوك.
تُبادِرُه بالرد متبرمة: لا داعي لهذا التجهّم ” كلّو نعمة الله ” ، وتُسِرّ في نفسها:
لن تتحكَّم فيَّ بعد الآن؛ فأنا حرة.
قطَع عليها همهمتها وهو واقف امام الباب قبيل خروجه قائلاً :
-أنت تعودين في الثانية والنصف، بينما أعود أنا في السادسة والنصف، وهناك وقت كافٍ لإتمام الأعمال المنزلية بإجادة واهتمام، خاصة إعداد الطعام.
تعودُ من عملها تضع الطعام على النار، وتغُضّ الطرف عن كثير من الأعمال المنزلية؛ لتسارع فتجلس أمام حاسوبها الخاص، تتجوَّل داخل مواقع التواصل الإجتماعي بشغفٍ لا تكاد تُحِس بما حولها.
يعودُ من عمله، وتضع الطعام على المائدة، وهي وجِلة ، فقد احترق الطعامُ اليوم أيضاً، لا يكاد يتناول هو اللقمة الأولى مختبرًا نُضْجه، حتى يشتعل غضبُه، ويزمجر قائلاً:
-منذ أن تزوجنا من ستة أشهر، وكل يوم الطعام إما “شايط” أو محروق، أو لم يكتمل نُضجه ، بسبب مبعوث الشيطان هذا، الواجب التخلص منه، يرفع حاسوبها لأعلى، ليسقط على الأرض، فيتحطم تمامًا.
تحتوي وجهها براحتيها، تشهق وهي تنظُر من بين أصابعها، غير مصدقة، وتصرخ:
– أنت تستهين بي، تتناول حاسوبه وتضرب به الأرض لعدة مرات حتى حطمته تمامًا، وهي تقول في هيستريا: أنت لستَ أفضلَ مني.
ما زال يزأر في وجهها:
– أنتِ تتحدَّينني؟!!
يندفع نحوها، يرفع راحةَ يده ويهوي بها على وجهها، فتصرخ باكية:
– لن أعيشَ معك بعد اليوم، طَلِّقْني، يُجيبها في غير مبالاة:
-أنت طالق،
تتماسك لتكمل التحدي، مبديةً التجلُّد واللامبالاة، ثم تغادر البيتَ غيرَ آسفة.
بينما هو لا يزال واقفاً، مستنداً إلى الجدار، على وجهِه آثار الصدمة ممَّا حدَث في خلال دقائق، ألجَمَه الموقف، فعجَز عن الكلام، كأنه ليس هو، وكأنها ليست هي، تمرُّ عليها عدة أيام في بيت أبيها، وحدها تستشعر الندمَ؛ فهو محقٌّ في رأيه فيها، ولكن ألَا يجلِسُ هو أمام حاسوبه؟! وإذا أغلَقه فلكيْ يستمعَ إلى أسوأ جوقة في العالم ، غير عابئ بوجودها ممتعضة، تقول لنفسها :
– باعني بدم بارد، إنْ عاد إلي فسيكون بشروطٍ صارمة، وعلى الفور أزالته من قائمة الأصدقاء .
على الجانب الآخر، كان يحدِّثُ نفسَه في تفكيرٍ عميق، يحاول أن يبرِّرَ لنفسه:
– كان لا بد من وقفةٍ حاسمة، نعم، ولكنني تهوَّرْتُ، بل كان عليها أن تتحمَّلَني؛ لكيلا تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، هي السبب فيما نحن فيه الآن ، سأعيدها ولكن بعد أن تُصلِح من شأنها، وتكون امرأة بحق تهتم بي .
مرَّت عدةُ أيام أخرى كئيبة ثقيلة، تعُدُّ الأيام، ترقب جديدَه، بينما هو يفكِّر كيف يبدأ، لا بديل عن العودة إلى نقطة الصِّفر.
تجد في موقع التواصل الاجتماعي عرضًا منه بطلب صداقة، تفرَحُ، ثم تُحجِم عن القبول، فلا ينبغي أن يعرِفَ أنها كانت تنتظرُه بلهفة وشوق، ولم لا؟ لا بد أنه استشعر خطأه، يترقَّب قَبولها الصداقة بشغف، أخيرًا بعد ثلاثة أيام تقبَلُ إضافته، يتنهَّد بارتياح، فثمة أمل يلوح في الأفق، أرسل إليها: “هل من الممكن أن نتقابَلَ؟”
– إذًا أنت تشعرُ بخطئك؟
-الخطأ مشترك، ولتكن هذه نقطةَ البداية نحو إصلاحِ ما أربَك حياتَنا ، لنتقابل في المكان الذي كان فيه لقاؤُنا الأول.
يسبقها إلى المكان، يستعيد فيه ذكرياته، تذهَبُ إليه في الميعاد المحدَّد، يحييها في حبور، ويحتوي يدها في حنو تُحِس – ويديها بين يديه – براحة، وتهدأ أنفاسُها المتلاحقة، وتنظر إليه في عتاب، يفاجئها:
– أنا آسف، أنا مخطئ، ولكنك أنتِ التي دفعتِني لذلك.
ترُدُّ بشيء من التودد:
– أنت لا زلتَ كما أنت، لا تُدين نفسك أبدًا.
– يمنَعُها من الاسترسال: نحن مخطئانِ، ولا بد من صياغة جديدة لحياتنا.
– هل ستستغني عن نعيق غربان المساء؟
– سأستغني عن التلفاز بأكمله، وأنتِ هل ستستغنين عن الحاسوب حتى تعدي طعامًا جيدًا؟
– وهل تركتَ لي حاسوبًا ليشغَلَني عن بيتي؟
-سأحضر حاسوبًا واحدًا مشتركًا بيننا، ولكن واجبات المنزل أولًا.
يعودان إلى بيتهما، وفي طريقهما يشتريان الورود ، اما هي ، ففي المساء تُغلِق الأنوار الكهربائية، وتُشعل الشموع، يهتز لهبُها الضعيف بفعل النسمات الطرية القادمة من الشرفة، محمّلة برائحة الزروع الجديدة، مخترقة نفسيهما، لترطِّب ما تيبَّس؛ مما أضفى على المكان سحرًا من نوع خاص، ليُعيدا اكتشافَ دُررهما التي طمست، فكم هما جميلان .
يستيقظان في نشاط وحيوية، وابتسامة عريضة، يُسارِع فيمسَح حذاءيهما دون حساسية، بينما هي تكوي ملابسَهما دون حرج أو استشعار بالدونية.
العهدُ الجديد أنبت في أحشائها ثمرةً جميلة بعد أن طردا الغربان من فضائهما وبدءا عهد العصافير .