

#قصة _ من _ بيتنا
رائحةُ القهوة المُرّة تجوبُ أرجاء البيت ، توقظُ حاسّة شمّي وشفغي الكبير لارتشافِ كأسِ بنٍ يعدّلُ مزاج صباحي .
أمّي أمهرُ امرأةٍ في صُنع القهوة المُرّة ، تذوّق حلاوتها وطعمَها المتميّز وستصدقني .
أنتفضُ من سريري مُسرعاً ، أبحثُ عن القِدر الكبير الذي يغلي على نارٍ هادئةٍ فوق الموقد ، فلا أجده ..
هدأت وتذكرت أني وحدي في البيت ، وأنّ هذا عيديَ الخامس في الغربة ، فلا قهوة مُرّة ، مرارُ الغربة يكفي ،
ولا أمّي تدخلُ غرفتي وتخرجُ كلّ دقيقة لتوقظني من أجل صلاةِ العيد .
حاولتُ مكالمتها ولكنّ الخطوط مشغولة .
شربتُ قهوتي الأميركية على عجلٍ وخرجت بسرعة حتّى دون أن أُرتّب سريري .
اهتزّ جوالي وحسبتها أمّي المرسلة ، لكنها كانت خطيبتي المزعومة ليان .
خطبتها لي أمي وأنا هنا في ميونخ .
عبر الإنترنت تعارفنا ، وخطبنا، وسنتزوج وربما ننجب الأولاد .!
قرأت رسالة معايدتها بامتعاض ، تلكَ الغبيّة تظنّ أنّي سأتزوجها، لا تعلم أني قبلت بها إرضاءً لأمي وهي قبلت بي على ما أظن ، لأن أغلب الفتيات حُلمها الآن شابٌّ مغترب خارج حدود الوطن وحربه وجيشه واحتياطه.!
تباً لفتاةٍ تظنُّ أنّ كلّ شابٍّ اغترب ، ونسي عاداته وتقاليده وهويته حتّى.
حسناً ، ربما نتغير بمفهوم الأرض وطباعِ سكانها لكن المبادئ والقيم تبقى ثابتة ، لا تتغير بتغير الأرض .
خطيبتي ليان من ذاكَ الصنف ، فالبارحة أخبرتني أنها تحلم باليوم الذي تسافر به إلي ، لتشعر بالتحرر قليلاً.
كم هي لا تُشبهُ سوسن .
فجأةً ضربت بظهري دراجة وقطعت حبال أفكاري .
استدرتُ للوراء فإذا بها جين ، جارتي في السكن.
_العربي الأسمر ، ألا تنتبه قليلاً .!
_…..
_ولاتعرفُ الابتسامَ أيضاً ؟!
_آسف ياجين ، لامزاج عندي اليوم
جين ..صاحبة النّمش الكثير والعمل المتواصل في إيصال البيتزا ، لو كانت عندنا لتزوجت منذ سنين وأنجبت خمسة أولاد حتى لاتستطيع قيادة دراجة .!
رنّ الهاتف ، وقد كانت خطيبتي ليان ، تريد أن تطلب منّي النّوم في منزل صديقتها .
رفضت رفضاً قاطعاً ، وتشاجرنا حتّى أني رميتُ الهاتف أرضاً.
ضحكت جين ..
_العربي غاضبٌ فلأهرب أنا من هنا .
_ آسف يا جين
_ما بك؟ هل تشاجرت مع صديقتك ؟
_بل خطيبتي
_حقاً؟ ستأتي بها إلى هنا ؟!
لم أُجب جين ،
رحلت وأنا أخبرها أنّي سآتي لتناول البيتزا مساءً .
دخلتُ حديقةً عامة ، أرسلت لأمي رسالة معايدة ، أخبرتها أني انفصلت عن ليان فليس هناك نسبةُ توافقٍ بيننا ، وبدأتُ بالبحثِ بين أسماءِ جهات اتّصالِ هاتفي ، حتّى وصلت ، سوسن ، لم أكلّمها منذ أن سافرت .
أذكرُ حينها أني طلبتُ منها نسياناً وفيّاً لنبضينا معاً .
كنتُ داخلاً رحلة اللاعودة وربما أنجو منها وربما لا .
البالم إن ابتلعَ جسدي ورماني فريسةً للبحر ، سأموتُ حينها وأنا في ذمّتي وعدَ لقاءٍ نكثتُ به مع سوسن .
لذلك تعمّدتُ قسوتي حتّى ألوذَ بالفَرار وأنا أحملُ كُره سوسن لي .!
ثلاثُ سنواتٍ قصمت ظهرَ شوقي وأرغمتني على الكتابةِ لها ، مع أنّي علمتُ أنها خُطبت بعدَ شهرٍ من سفري ، وأنا الذي استغرقَ طريقُ هجرتي ثمانية شهورٍ وموتين .!
بلا تردّد وقبلَ أن ينهرني كبريائي المزيّف ، أرسلتُ لها رسالتي ..
(سوسن ..
أيا ابنةَ الماء ،
أما اشتاقت عيناكِ لِسُقيا لقاء ؟!
أنا المُنحدرُ من مسامكِ عطراً ،
خانتني مسامي حينَ طالبت رائحتي بالوفاء .! )
بعدَ عشرِ دقائقٍ بالضبط ، أتتني رسالةٌ صوتيةُ من سوسن ، هرعتُ لأفتح الرسالة وكأنّي مفقودٌ وجدَ أمانَ مَلجأه .
الرسالة كانت كالتالي..
(ثو بدكن ؟؟ ماما بالمطبخ )
عينايَ بوصلتان تُشيران إلى هاويتي .
شعرتُ بكمٍّ هائلٍ من مزيج الغضب والخجل وكُسرانِ خاطرِ الشّوق والنّدم على تسرّع غبائي. !
مسحتُ الرّسالة ، حظرتُ الرّقم ، أرجو ألّا أُسبّبَ لها مشاكلاً وصلّيتُ كي لايرى الرّسالة زوجها.
أرسلتُ رسالةً إلى ليان ،
(أنتِ حُرّة.. سأرسل لكِ ماتريدين من مال ، عربونَ أسفي )
جائني الردُّ سريعاً
( احسب حسابك أن المهر من حقي والذهب والهدايا أيضاً .)
لا أعلمُ لماذا ضحكت ، حتّى نظر نحوي كلّ من في الحديقة ، فقد كنتُ محقاً بشأنها و ماهي إلا حجرُ عثرة أماطها الله عن طريقي .
حسناً ، أنا جائع ، فلأذهب لتناول البيتزا ، جين بانتظاري .